الدول الأوروبية لا تملك القدرة العسكرية البرية الكافية للدفاع عن نفسها


في الـ19 من مارس الجاري نشر قائد القوات البرية الفرنسية الجنرال بيير تشيل مقالة في صحيفة «لوموند» تحمل عنواناً صريحاً للغاية هو «الجيش جاهز»، وقد اكتسب تشيل خبرة كبيرة في مغامرات فرنسا الخارجية في جمهورية إفريقيا الوسطى، وتشاد، وكوت ديفوار، والصومال. وكتب الجنرال في مقاله أن قواته «جاهزة» لأي مواجهة، وأنه يستطيع حشد 60 ألف جندي من أصل 121 ألف جندي فرنسي خلال شهر لأي صراع.

واقتبس الجنرال تشيل العبارة اللاتينية القديمة التي تقول: «إذا كنت تريد السلام فاستعد للحرب»، وأضاف: «تتضاعف مصادر الأزمات وتحمل معها أخطار التصاعد أو التوسع». ولم يذكر الجنرال تشيل اسم أي دولة، ولكن كان من الواضح أن إشارته كانت إلى أوكرانيا، إذ صدر مقاله بعد نحو أسبوعين من تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 27 فبراير بأن قوات حلف شمال الأطلسي (ناتو) قد تضطر إلى دخول أوكرانيا.

وبعد بضع ساعات من تصريح ماكرون الفظ، قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي: «لن يكون هناك جنود أميركيون على الأرض يشاركون في القتال في أوكرانيا» وهذا كان مباشراً وجلياً. وكانت وجهة النظر الأميركية غير مشجعة، إذ تناقص دعمها لأوكرانيا على نحو سريع. ومنذ عام 2022 قدمت واشنطن لأوكرانيا مساعدات بقيمة نحو 75 مليار دولار، لعبت دوراً حاسماً خلال حرب أوكرانيا مع روسيا.

ولكن خلال الأشهر الماضية رفض الكونغرس الأميركي الموافقة على المساعدات لأوكرانيا، وناشد مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان خلال وجوده في كييف الحكومة الأوكرانية أن «تثق بالولايات المتحدة»، وقال: «لقد قدمنا دعماً هائلاً، وسنواصل القيام بذلك كل يوم وبكل طريقة نعرفها»، ولكن هذا الدعم لن يكون بالضرورة بالمستوى الذي كان عليه خلال السنة الأولى من الحرب.

الحد من الدعم والدعوة للسلام

في الأول من فبراير الماضي وافق قادة دول الاتحاد الأوروبي على تقديم 50 مليار يورو الى أوكرانيا «على شكل منح وقروض ميسرة للغاية»، وستساعد هذه الأموال حكومة كييف على «دفع الرواتب، والتقاعد، وتقديم الخدمات الأساسية لشعبها»، ولن تكون هذه الأموال معدة مباشرة للدعم العسكري الذي بدأ يتعثر في المجالات كافة، والذي أثار أنواعاً جديدة من الجدل في عالم السياسة الأوروبية، ففي ألمانيا على سبيل المثال تم توبيخ زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي في البرلمان رولف موتزينيتش من قبل أحزاب اليمين لاستخدامه كلمة «تجميد» عندما يتعلق الأمر بالدعم العسكري لأوكرانيا. وكانت الحكومة الأوكرانية حريصة على شراء صواريخ توروس بعيدة المدى من ألمانيا، ولكن الحكومة الألمانية ترددت في القيام بذلك، وأدى هذا التردد واستخدام موتزينيتش لكلمة «تجميد» إلى خلق أزمة سياسية داخل ألمانيا.

وبالفعل فقد انعكس هذا الجدل الألماني حول مزيد من بيع الأسلحة الى أوكرانيا في جميع الدول الأوروبية التي كانت تقدم الأسلحة لأوكرانيا. وحتى الآن تُظهر بيانات استطلاعات الرأي في مختلف أنحاء القارة أن أغلبية كبيرة تعارض استمرار الحرب، وبالتالي ضد استمرار تسليح أوكرانيا لتلك الحرب.

ويظهر استطلاع للرأي أجري لصالح المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في فبراير أن «10% فقط من الأوروبيين في 12 دولة يعتقدون أن أوكرانيا ستفوز». وكتب محللو الاستطلاع: «وجهة النظر السائدة في بعض البلدان هي أن أوروبا يجب أن تحذو حذو الولايات المتحدة التي تحد من دعمها لأوكرانيا من خلال القيام بالشيء نفسه، وتشجع كييف على عقد اتفاق سلام مع موسكو»، وقد بدأ هذا الرأي يدخل في المناقشات حتى بين القوى السياسية التي لاتزال ترغب في تسليح أوكرانيا.

وقال عضو البرلمان عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي لارس كلينجبيل: «يجب أن تبدأ المفاوضات»، على الرغم من أن هذا الرجل قال إن «ذلك لن يحدث قبل الانتخابات الأميركية في نوفمبر».

إبطاء تمويل أوكرانيا

لم يعد يهم ما إذا جاء للبيت الأبيض أي من المرشحين المحتملين للرئاسة دونالد ترامب أو جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر، ومهما يكن من أمر فقد سادت بالفعل آراء ترامب بشأن الإنفاق العسكري الأوروبي في الولايات المتحدة.

ويطالب الجمهوريون بإبطاء التمويل الأميركي لأوكرانيا، ويطالبون الأوروبيين بسد الفجوة من خلال زيادة إنفاقهم العسكري.

وستكون هذه النقطة الأخيرة صعبة لأن العديد من الدول الأوروبية لديها أسقف للديون، وإذا أرادوا زيادة الإنفاق العسكري فإن ذلك سيكون على حساب البرامج الاجتماعية الثمينة.

وتُظهِر بيانات استطلاعات الرأي الخاصة بـ«الناتو» عدم اهتمام السكان الأوروبيين بالتحول من الإنفاق الاجتماعي إلى الإنفاق العسكري.

والمشكلة الأكبر التي تواجه أوروبا هي أن بلدانها كانت تعمل على تقليص الاستثمارات المرتبطة بالمناخ وزيادة الاستثمارات المرتبطة بالدفاع. ويتعرض بنك الاستثمار الأوروبي، الذي تأسس عام 2019، كما ذكرت صحيفة «فايننشال تايمز»، لـ«ضغوط لتمويل المزيد من المشاريع في صناعة الأسلحة»، في حين أن صندوق السيادة الأوروبي، الذي أنشئ في عام 2022 لتعزيز التصنيع في أوروبا، سيذهب إلى التوجه نحو دعم الصناعات العسكرية. وبعبارة أخرى سيطغى الإنفاق العسكري على الالتزامات المتعلقة بالاستثمارات المناخية والاستثمارات اللازمة لإعادة بناء القاعدة الصناعية في أوروبا. وفي عام 2023، جاء ثلثا إجمالي ميزانية «الناتو» البالغة 1.2 تريليون يورو من الولايات المتحدة، وهو ضعف ما أنفقه الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والنرويج على جيوشها. إن الضغوط التي يمارسها ترامب على الدول الأوروبية لإنفاق ما يصل إلى 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على جيوشها ستحدد الأجندة حتى لو خسر الانتخابات الرئاسية.

ترسانة أوروبية فارغة

ورغم كل التبجح الأوروبي بشأن هزيمة روسيا، فإن التقييمات الرصينة للجيوش الأوروبية تظهر أن الدول الأوروبية لا تمتلك ببساطة القدرة العسكرية البرية اللازمة لخوض حرب هجومية ضد روسيا، ناهيك بالدفاع عن نفسها بالقدر الكافي.

وحمل التحقيق الذي أجرته صحيفة «وول ستريت جورنال» حول الوضع العسكري الأوروبي عنواناً مذهلاً: «الإنذار يتزايد بشأن الجيوش الضعيفة والترسانات الفارغة في أوروبا». وأشار الصحافيون إلى أن الجيش البريطاني لا يملك سوى 150 دبابة و«ربما 12 قطعة مدفعية بعيدة المدى صالحة للخدمة»، في حين أن فرنسا لديها «أقل من 90 قطعة مدفعية ثقيلة» والجيش الألماني «يمتلك ذخيرة تكفي ليومين من المعركة»، وإذا تعرضوا للهجوم فلديهم عدد قليل من أنظمة الدفاع الجوي.

لقد اعتمدت أوروبا على الولايات المتحدة لتقوم بعمليات القصف العنيف والقتال منذ خمسينات القرن العشرين، بما في ذلك الحروب الأخيرة في أفغانستان والعراق. وبسبب القوة النارية الأميركية المرعبة فإن دول الشمال العالمي هذه قادرة على تسوية البلدان بالأرض، لكنها لم تكن قادرة على الفوز في أي حرب، وهذا الموقف هو الذي يولد الحذر في بلدان مثل الصين وروسيا، التي تدرك أنه على الرغم من استحالة تحقيق نصر عسكري ضدها في الشمال العالمي، لا يوجد سبب يمنع هذه البلدان بقيادة الولايات المتحدة من المخاطرة بخوض معركة هرمجدون، لأنها تمكنت من تحقيق نصر عسكري ضدها.

إن هذا الموقف من جانب الولايات المتحدة الذي انعكس في العواصم الأوروبية، يقدم مثالاً آخر على غطرسة الشمال العالمي: رفض مجرد النظر في مفاوضات السلام بين أوكرانيا وروسيا. إن قول ماكرون أشياء مثل أن «الناتو» قد يرسل قوات إلى أوكرانيا ليس أمراً خطيراً فحسب، بل إنه يضعف مصداقية الشمال العالمي. لقد هُزِم «الناتو» في أفغانستان، ومن غير المرجح أن يحقق مكاسب كبيرة ضد روسيا.

عن «كاونتر بانش»  

. في الأول من فبراير الماضي وافق قادة الاتحاد الأوروبي على تقديم 50 مليار يورو إلى أوكرانيا على شكل منح وقروض ميسرة للغاية.. هذه الأموال ليست معدة مباشرة للدعم العسكري المتعثر لكنها ستساعد كييف على دفع الرواتب وتقديم الخدمات الأساسية لشعبها.

. اعتمدت أوروبا على الولايات المتحدة لتقوم بعمليات القصف العنيف والقتال منذ خمسينات القرن العشرين، بما في ذلك الحروب الأخيرة في أفغانستان والعراق. وبسبب القوة النارية الأميركية المرعبة، فإن دول الشمال العالمي هذه قادرة على تسوية البلدان بالأرض، لكنها لم تكن قادرة على الفوز بأي حرب.

Share


تويتر


This website uses cookies to improve your experience. We'll assume you're ok with this, but you can opt-out if you wish. Accept Read More